أولاً- قال الله عز وجل في توبيخ الكفار وتقريعهم :﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾(فصّلت: 9- 12) ، فأخبر سبحانه في هذه الآيات أنه خلق الأرض في يومين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام . ثم استوى إلى السماء فقضاهن سبع سموات في يومين .
وقال الله جل وعلا :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾(السجدة: 4) ، ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾(ق: 38) ، فأخبر سبحانه في هاتين الآيتين أنه خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام .
وقد خُيِّل لبعض الملحدة أن بين هاتين الآيتين ، وآيات فصِّلت السابقة تناقضًا ، حيث نصت آيات فصِّلت – حسب فهمهم - على أن خلق السموات والأرض وما بينهما قد كان في ثمانية أيام ، في حين تصرح الآيتين الأخيرتين بأن خلق ذلك كان في ستة أيام .
ثانيًا- ويجمع علماء التفسير – قديمًا وحديثًا – في الإجابة عن هذه الشبهة بشبهة أخرى ، فيقولون : إن ما أجمل في الآيات الأخيرة جاء مفصلاً في الآيات الأولى ؛ لأنهم فهموا منها أن خلق الأرض تمَّ فى يومين . وخلق الرواسي والمباركة وتقدير الأقوات استغرق ما تمم اليومين أربعة أيام . ثم استغرق خلق السموات السبع يومين ، فكان المجموع ستة أيام ، وهي الأيام الستة التي نصَّت عليها صراحة بقية الآيات ، وعليه فلا تناقض بين هذه الآيات . وأورد الرازي على الآية سؤالين ، وأجاب عنهما :
السؤال الأول : أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أُخر ، وذكر أنه خلق السموات في يومين ، فيكون المجموع ثمانية أيام ؛ لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ، فلزم التناقض .
واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا : المراد من قوله :﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ مع اليومين الأولين ، وهذا كقول القائل : سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يومًا . يريد كلا المسافتين . ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفًا في شهر وألوفًا في شهرين ، فيدخل الألف في الألوف ، والشهر في الشهرين .
السؤال الثاني : أنه لما ذكر أنه خلق الأرض في يومين ، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين ، كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط ، فلم ترك هذا التصريح ، وذكر ذلك الكلام المجمل ؟
والجواب : أن قوله :﴿ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ ﴾ فيه فائدة على ما إذا قال
خلقت هذه الثلاثة في يومين ) ؛ وذلك لأنه لو قال
خلقت هذه الأشياء في يومين ) ، لم يفد هذا الكلام كون هذين اليومين مستغرقين بتلك الأعمال ؛ لأنه قد يقال
عملت هذا العمل في يومين ) ، مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل . أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء ، ثم قال بعده :﴿ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ ﴾ ، دل ذلك على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان .
ويخالف الدكتور زغلول النجار المفسرين في تأويل الآية ، فيقول تحت عنوان ( أيام الخلق الستة كما جاءت في القرآن الكريم ) :« جاءت هذه الأيام الستة مجملة في سبع آيات قرآنية كريمة ، ومفصلة في أربع آيات من السورة رقم ( 41 ) ، والتي سماها ربنا تبارك وتعالي باسم ( فصلت ) .. والآيات الأربع ( 9 ـ 12 ) من سورة فصلت تشير إلى أن خلق الأرض الابتدائية كان سابقًا على تمايز السماء الأولى الدخانية إلى سبع سماوات ؛ ولذلك يخبرنا ربنا تبارك وتعالى بأنه خلق الأرض في يومين . أي : على مرحلتين : هما ( يوم الرتق ، ويوم الفتق ) , وأنه تعالى قد جعل لها رواسي من فوقها , وبارك فيها ، وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام . أي : أربع مراحل متتالية , ثم خلق السماوات في يومين . أي : على مرحلتين ، وهو تعالى القادر على أن يقول للشيء
كن فيكون ) ؛ ولكن هذا التدرج لحكمة بالغة ، يفهم منها الإنسان سنن الله في الخلق ، فيحسن توظيفها في عمارة الأرض وفي القيام بواجبات الاستخلاف فيها » .
ويضيف الدكتور زغلول قائلاً :« وقد يلتبس على قارئ تلك الآيات لأول وهلة أن خلق الأرض وحدها قد استغرق ستة أيام . أي : ست مراحل ، وأن خلق السماء قد استغرق يومين , فيكون خلق السماوات والأرض قد استغرقا ثمانية أيام , وهو ما يتعارض مع الآيات العديدة التي تؤكد أن خلق السماوات والأرض قد تم في ستة أيام . أي : ست مراحل ؛ ولكن لما كان خلق السماء والأرض عملية واحدة متداخلة ، فإن يومي خلق الأرض هما يوما خلق السماوات السبع ؛ وذلك لأن الأمر الإلهي في ختام تلك الآيات الأربع كان للسماء وللأرض معًا :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾(فصّلت: 11) ، وإن كانت غالبية المفسرين ترى خلاف ذلك ، لاعتبارهم يومي خلق الأرض داخلين في الأيام الأربعة لجعل الرواسي , والمباركة , وتقدير الأقوات ؛ إلا أنهم مجمعون على أن حرف العطف ( ثم ) لا يدل هنا على الترتيب مع التراخي ؛ ولكنه يدل على بعد عملية الاستواء والتسوية للسماوات السبع من السماء الدخانية الأولى ؛ لأن من معاني ( ثم ) هنا أنها إشارة إلى البعيد ، بمعني : هناك ، في مقابلة : هنا ، للقريب .
والشاهد على ذلك ما جاء في سورة النازعات من قول الحق تبارك وتعالى :﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾(النازعات: 27- 33) ، مما يؤكد أن المراحل الأربع من جعل الرواسي , والمباركة ، وتقدير الأقوات يقصد بها دحو الأرض الابتدائية ، بمعنى : إخراج مائها ومرعاها . أي : تكوين أغلفتها المائية والغازية , وأن يومي خلق الأرض ، وهما نفس يومي خلق السماء ، يقصد بهما خلق العناصر المكونة للأرض الابتدائية في داخل السماء الدخانية » .
ثالثًا- وهكذا اختلف العلماء في الجواب عن هذه الشبهة ، وسبب اختلافهم يرجع أولاً : إلى خلطهم بين معاني ( الخلق ، والجعل ، والتقدير ، والتسوية ، والقضاء ) . ويرجع ثانيًا إلى اختلافهم في تفسير خلق الأرض ؛ فمنهم من فسَّره بمعنى : التقدير ؛ كالفخر الرازي الذي ذهب إلى أن ( ثُمَّ ) للتراخي ، وأبو حيان الذي ذهب إلى أن ( ثم ) لترتيب الأخبار ، وتبعه في ذلك الألوسي إلا أنه فسر الخلق بمعنى : الإرادة . فعلى القول الأول يكون المراد من قوله تعالى :﴿ خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ : قدَّر خلق الأرض في يومين . وعلى القول الثاني يكون المراد : أراد خلق الأرض في يومين . وكذلك يكون المراد من قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ ﴾ : قدَّر فيها رواسي ، أو أراد أن يجعل فيها رواسي .
وليت شعري : أيعدُّ هذا تفسيرًا لكلام الله سبحانه ، أم تحريفًا له ؟ الله تعالى يقول :﴿ خَلَقَ الْأَرْضَ ﴾ ، وهم يقولون : أراد خلق الأرض ، أو قدَّر خلقها . أي : لم يخلقها . والله تعالى يقول :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ ، وهم يقولون : أراد أن يجعل فيها رواسي ، أو خلق فيها الرواسي والأرزاق والأشجار والأنهار والصخور والمعادن ، فيخلطون بين الخلق والجعل والتقدير .
ثم يقيسون الآية على قولهم
سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يومًا ) . يريد كلا المسافتين . وهذا قياس فاسد لا يصح أن يحمل عليه قول الله جل وعلا . ولو كان نظم الآية الكريمة هكذا
خلق الله الأرض في يومين ، وخلق الجبال والمباركة والأقوات في أربعة أيام ) ، لربما كان لهم العذر فيما ذهبوا إليه ؛ ولكن الله سبحانه يقول :﴿ خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ ، و﴿ جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ ، فغاير بين الخلق ، والجعل والمباركة ، والتقدير .
والله تعالى يقول :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ ، وهم يقولون : ثم قصد إلى السماء وخلقها من الدخان . وكيف يستوي سبحانه إلى السماء قبل أن يخلقها ؟ وكيف يخلقها سبحانه من الدخان ، وهو يعرفُّها بأنها دخان ؟
والله تعالى يقول :﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ ، وهم يقولون : إنه تمثيل لظهور الطاعة من السماء والأرض ، حيث انقادا وأجابا ، فقام ذلك مقام قولهما ، والغرض منه – كما قال الزمخشريُّ – تصوير أثر قدرة الله تعالى في المقدورات لا غير ، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب ؛ ونحوه قول القائل :« قال الجدار للوتد : لم تشقني ؟ قال الوتد : سل من يدقني ، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي » . ولست أدري كيف يجوز لعاقل أن يقيس كلام الباري الذي أنطق الحجر والشجر والسماء والأرض بقدرته بهذا الكلام أو مثله ؟!
وأما ما ذكره الرازي في جواب السؤال الثاني الذي أورده من أن في قوله تعالى :﴿ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لّلسَّائِلِينَ ﴾ فائدة ، على ما إذا قال
خلقت هذه الثلاثة في يومين ) ، فقد حكاه عنه أبو حيان في البحر ، وردَّ عليه بقوله :« ولا فرق بين يومين ، وأربعة أيام بالنسبة إلى الاستغراق ، فإن كانت أربعة تقتضي الاستغراق ، وكذلك اليومين يقتضيانه ، ومتى كان الظرف معدودًا ، كان العمل في جميعه : إما على سبيل التعميم ، نحو : سرت يومين . وقد يكون في بعض كل يوم منهما ، نحو : تهجدت ليلتين ، فاحتمل الاستغراق ، واحتمل في بعض كل واحد من الليلتين . وإذا كان كذلك ، احتمل أن يكون وقع الخلق للأرض في بعض كل واحد من اليومين ، واحتمل أن يكون اليومين مستغرقين لخلقها ، فكذلك في أربعة أيام يحتمل الاستغراق ، وأن يكون خلق الأرض والجبال والبركة وتقدير الأقوات وقع في بعض كل يوم من الأربعة .. فما قاله أبو عبد الله الرازي لم تظهر به فائدة زائدة » .
رابعًا- وخلاصة القول في هذه الآيات : أن قوله سبحانه :﴿ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ نصٌّ صريح في أن خلق الأرض قد تمَّ في يومين من أيام الله عز وجل . ومعنى الخلق : الإيجاد بعد التقدير ، وفق خصائص معينة تتطابق مع إرادة الخالق جل وعلا . ويدخل مع خلق الأرض هنا في يومين خلْقُ السموات ؛ لأن السموات والأرض خلقتا معًا . والآية سيقت للاحتجاج على الكافرين المنكرين قدرة الله جل وعلا على بعثهم ونشورهم بعد فنائهم ، لا لتحديد مدة خلق السموات والأرض .
أما قوله سبحانه :﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾ فمعطوف على قوله :﴿ خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ ، وهو مغاير له في المعنى . والرواسي : الجبال الثوابت ، وجعلُها ، معناه : تصييرُها بعد خلقها رواسي ، وهي حين خلقت لم تكن رواسي . وبارك فيها . أي : نمَّاها وزاد فيها . والبركة في الشيء : النماء والزيادة بعد النقصان . وقدَّر فيها أقواتها . أي : قسَّم أرزاق أهلها ومعايشهم ، وما يصلحهم على مقادير محددة معينة ، ويؤيِّده قراءة ابن مسعود :﴿ وَقَسَّمَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾ . وهذا يعني : أن الأقوات كانت مخلوقة ، ثم قدِّرت . أي : قُسِّمت ؛ كما قال سبحانه وتعالى :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾(الفرقان: 2) . وقيل : ومن التقدير : تقدير كل نوع من الأقوات بما يصلح له من الأوقات ، من حر أو برد أو اعتدال .
فهذه الأنواع الثلاثة ( إرساء الجبال ، والمباركة في الأرض ، وتقدير الأقوات فيها ) قد تمت في أربعة أيام من أيام الله عز وجل ، وهذه الأيام الأربعة لا علاقة لها باليومين اللذين تم فيهما خلق الأرض ، فليس من الصواب في شيء أن نجعلهما داخلين في الأيام الأربعة ؛ كما أنه لا علاقة لهذه الأيام الأربعة التي تمَّ فيها إرساء الجبال والمباركة في الأرض وتقدير الأقوات فيها بدَحْو الأرض – كما ذهب إليه ابن كثير ، وتبعه الدكتور زغلول النجار ؛ لسبب بسيط وهو أن مرحلة إرساء الجبال في الأرض تلي مرحلة دحوها ، وبسطها ، ومدِّها ، وجعلها قرارًا .
وأما قوله سبحانه :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾ فالمراد منه : قصد إليها وتوجه ، من قولهم : استوى إلى مكان كذا ، إذا توجه إليه . والاستواء يقال لاعتدال الشيء في ذاته ؛ كما في قوله تعالى :﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ﴾(النجم: 6) . واستوى – كما قال الراغب - متى عُدِّيَ بـ( على ) ، اقتضى معنى الاستيلاء ؛ كقوله :﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾(طه: 5) .. وإذا عُدِّيَ بـ( إلى ) ، اقتضى معنى الانتهاء إليه : إما بالذات ، أو بالتدبير ؛ ومن الثاني قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ﴾(فصّلت: 10) .
واستواؤه جل وعلا إلى السماء - بلا كيف أو تشبيه أو تحديد - يعني : أن السماء كانت مخلوقة ؛ وإلا كيف يستوي إليها ؛ ليخلقها من الدخان ، وقد عرَّفها سبحانه بأنها دخان ؟ ولو لم تكن مخلوقة مع الأرض ، لما صحَّ خطابهما بقوله تعالى :﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ . وإذا كانت الآية الأولى قد حدَّدت خلق الأرض في يومين ، فإن هذه الآية لم تشر إلى مدَّة خلق السماء ؛ لأن السماء خلقت مع الأرض ؛ ولأن الغرض من هذه الآيات ليس هو تحديد مدة خلق السموات والأرض كما سبقت الإشارة إلى ذلك ؛ وإنما الغرض منها هو الاحتجاج على الكافرين المنكرين للبعث .
وأما قوله تعالى :﴿ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ فظاهرٌ في أن هذه المحاورة بين الباري جل وعلا ، والأرض والسماء كانت بعد خلقهما ، وهي من أقوى الأدلة وأظهرها على أن السماء الدخانية كانت مخلوقة مع الأرض . ومذهب أكثر أهل العلم أن الله تعالى خلق في السماء والأرض الكلام ، وجعل لهما حياة وإدراكًا ونطقًا ، فتكلمتا كما أراد سبحانه ، ونطقتا نطقًا حقيقيًّا . وهذا القول - كما قال الشيخ ابن عطيَّة - أحسن من قول من ذهب إلى أن ذلك مجاز ، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والخضوع والتذلل ما هو بمنزلة القول . وإنما كان هذا القول أحسن ؛ لأنه لا شيء يدفعه ، وأن العبرة فيه أتم ، والقدرة فيه أظهر ، وأنه أدل على كمال القدرة وتمامها .
فكلام السماء والأرض ثابت في القرآن الكريم بنص هذه الآية الكريمة ، ولا يصح حمله على المجاز بأي شكل من الأشكال . والسؤال الذي ينبغي أن يسأل هنا : كيف تكلمت السماء والأرض ؟ يقول الدكتور حسني حمدان الدسوقي أستاذ علوم الأرض بجامعة المنصورة في مقال له نشر في موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة ، يقول :« تأتى الإجابة على لسان عالم الفلك مارك هويتل في جامعة فرجينيا. الذي قام بتحليل إشعاع خلفية الكون التي ولدت في الأربعمائة ألف سنة الأولى في عمر الكون بعد حادث ( الانفجار الأعظم ) . يقول هذا العالم : إنه مندهش من أنه لم يصل أحد من قبله إلى كشف السر الذي توصل إليه . وقد توصل مارك هويتل إلى أن آخر سجلات التموجات المصاحبة لإشعاع خلفية الكون التي تأتى مباشرة بعد التضخم الأعظم تشبه الأمواج الصوتية المنسابة عبر الكون . إن هذه التموجات تعكس تأرجحات في كثافة مادة الكون الأولية ناشئة من أمواج صوتية , وقد بلغ عرض تلك الموجات ثلاثين ألف سنة ضوئية , وخمسة وخمسين أوكتاف تحت ما يمكن للبشر سماعه .. وحينما تم استيضاح هذه الموجات أمكن سماع ضجيج مخاض الكون » . وعقَّب الدكتور حمدان على ذلك بقوله :« وأنا بدوري أقول : إن هذا الصراخ ما هو إلا الصوت المصاحب لفتق الرتق ، وصدى قول السماوات والأرض بالطاعة لأمر الله » .
وأما قوله تعالى :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ فيكاد يجمع المفسرون على أن معناه : صنعهن وأوجدهن ، فيضيفون بذلك معنى جديدًا إلى معنى القضاء ، وهو ليس منه في شيء . قال الزهري :« القضاء في اللغة على وجوه ، مرجعُها إِلى انقطاع الشيء وتمامه . وكلُّ ما أُحْكِم عمله أو أُتِمَّ أو خُتِمَ أو أُدِّيَ أداء أو أُوجِبَ أو أُعْلِمَ أَو أُنْفِذَ أَو أُمْضِيَ ، فقد قُضِيَ » . وقال أبو بكر : قال أهل الحجاز :« القاضي في اللغة معناه : القاطع للأمور المحكم لها . قال الله :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ ، أراد : فقطعهن وأحكم خلقهن » .
وقال أبو هلال العسكري :« وأما ( القضاء ) فيقتضي فصل الأمر على التمام ، من قولك : قضاه : إذا أتمه وقطع عمله ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً ﴾(الأنعام: 2) . أي : فصل الحكم به . وقوله تعالى :﴿ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ ﴾(الإسراء: 4) . أي : فصلنا الإعلام به . وقال تعالى :﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ﴾(سبأ: 14) . أي : فصلنا أمر موته . وقوله تعالى :﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ . أي : فصل الأمر بهن » .
لاحظ قوله :« فصل الأمر بهن » ، ثم القول الذي قبله :« فقطعهن وأحكم خلقهن » ، وليس
صنعهن وأوجدهن أو خلقهن ) . هذا هو معنى ( القضاء ) ، وهذا هو معنى ﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾ ، وفرق كبير بينه ، وبين ( فخلقهن سبع سموات ) عند من كان له قلب وعقل ، وهو أقرب إلى قوله تعالى :﴿ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ﴾(البقرة: 29) . فقضاء السموات سبعًا لا علاقة له بخلقها ، وخلق الأرض ، وجعل الرواسي في الأرض ، والمباركة فيها ، وتقدير أقواتها .
خامسًا- وأختم بقولٍ لبعض المتأخرين أجاب به عن هذه الشبهة بنحو ما أجبت به ، حكاه عنه الألوسي ، وعقب عليه بكلام أظهر فيه عجبه من غرابته وتكلفه ، ومخالفته لمدلولات ألفاظ القرآن بحسب القواعد القرآنية واللغوية ، وسأترك للقارئ الموازنة بين هذا القول ، وما سبق من كلام الألوسي وغيره من المفسرين ، وتمييز الصواب من الخطأ .
قال الألوسي :« ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ؛ كقوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾(السجدة: 4) ، ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ﴾(ق: 38) ، وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام ؛ وهو أن للشيء حكمًا من حيث ذاته ونفسه ، وحكمًا من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ، ولكل من ذلك أجل معدود ، وحدٌّ محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له ، وهي متفاوتة مختلفة .
والله تعالى خلق السموات والأرض وما بينهما في حد ذاتها في ستة أيام ؛ وذلك عند نشئها في ذاتها من خلقه سبحانه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الياقوتة الحمراء ، لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة ، فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان ، فخلق السماء من الدخان ، والأرض من الزبد ، والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد .
والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ، ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب ، فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتبًا عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها ، وهو المسمَّى بالقدر ، وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية . وهذا الجعل متفرِّع على الخلق ، ونحوًه غيرُ نحوه قطعًا ؛ كما يشعر به قوله تعالى :﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ﴾(الفرقان: 2) . وقد يسمَّى بالتسوية وبالقضاء أيضًا ؛ كما في قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ﴾(البقرة: 29) ، وقوله تعالى هنا :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ﴾(فصّلت: 11- 12) .
وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات ، وحدود محدودات ، لا تدخل في أيام خلق السموات والأرض ؛ لأنها لإيجاد أنفسها . فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي لجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة ، وليست من تلك الستة ، وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سموات خارجان عنها .
فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين . وأما خلق السموات وما بينها وبين الأرض فلم يذكر في الآية مدة له ؛ وإنما ذكر مدة قضاء السموات ، وهو غير خلقها ، ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة ؛ وذلك غير خلق الأرض وما بينها وبين السماء ، فلا تنافي بينها ، وبين الآيات الدالة على أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام . ولا يعكر على ذلك ما روى عن الصادق ( أن الله سبحانه خلق في يوم الأحد والاثنين الأرضيين ، وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء ، وخلق السموات في يوم الأربعاء ويوم الخميس ، وخلق أقواتها يوم الجمعة ) ؛ وذلك قول الله سبحانه :﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾(الفرقان: 59) ؛ لأنه بعد تسليم صحته المذكور فيه أن الأقوات قد خلقت في يومين ، لا أنها قدرت ، وبين الخلق والتقدير بون بعيد ؛ فخلق الأقوات عبارة عن إيجاد ذاتياتها وموادها وعللها وأسبابها ، فإذا وجدت قدرت ، وفصلت على الأطوار المعلومة ، فلا إشكال » .
وعقَّب الألوسي على ذلك بقوله :« والعجب ممن استشكل هذا المقام ! كيف لم ينظر في مدلولات الألفاظ الإلهية بحسب القواعد القرآنية واللغوية ، فاحتاج في حله إلى تكلفات أمور خفية وارتكاب توجيهات غير مرضية ؟ » . ولست أدري : ممن العجب ! أمن صاحب هذا القول ، أم من الألوسي وغيره الذين خلقوا بتأويلاتهم إشكالات ، لم يقدروا على حلها حتى الآن ؛ لأنهم لم يفرقوا بين الخلق ، والجعل ، والتقدير ؟!