قال الله تعال :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ (الشرح: 1-
أولاً- نزلت هذه السورة الكريمة بعد سورة الضحى ؛ وكأنها تكملة لها ، فيها ظل العطف الندي ، وفيها روح المناجاة للحبيب ، وفيها استحضار مظاهر العناية ، واستعراض مواقع الرعاية ، وفيها البشرى باليسر والفرج ، وفيها التوجيه إلى سرِّ اليُسْر وحبل الاتصال الوثيق . وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها ، ومن العقبات الوعرة في طريقها ، ومن الكيد والمكر المضروب حولها .. توحي بأن صدره صلى الله عليه وسلم كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة , وأنه كان يحس العبء فادحًا على كاهله ، وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد ، وزاد ورصيد .. ثم كانت هذه المناجاة الحلوة , وهذا الحديث الودود من المحِبِّ لحبيبه !
ثانيًا- قوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾(1)
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقراءة العامة :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾ بالسكون. وقرأ أبو جعفر المنصور :﴿ أَلَمْ نَشْرَحَ ﴾ ، بفتح الحاء ، وخرَّجه ابن عطيَّة وجماعة على أن الأصل : ألم نشرحَنْ ، بنون التوكيد الخفيفة ، فأبدل من النون ألفًا ، ثم حذفها تخفيفًا . وقال غير واحد : لعل أبا جعفر بيَّن الحاء ، وأشبعها في مخرجها ، فظن السامع أنه فتحها .
وفي البحر المحيط لأبي حيان :« أن لهذه القراءة تخريجًا أحسن مما ذكِر ، وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بـ﴿ لَمْ ﴾ ، فقد حكَى اللَّحْيانيُّ في نوادره : أن منهم من ينصب بها ، ويجزم بـ﴿ لَنْ ﴾ ، عكس المعروف عند الناس . وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد :
في كل ما هَمَّ أمضَى رأيَه قدما ** ولم يشاورَ في الأمر الذي فعلا
وخرَّجها بعضهم على أن الفتح لمجاورة ما بعدها ؛ كالكسر في قراءة :﴿ الْحَمْدِ للّهِ ﴾(الفاتحة: 2) ، بالجر ، وهو لا يتأتى في بيت عائشة السابق » .
والاستفهام في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ؟ معناه : إثبات الشرح وإيجابه ؛ لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على النفي ، ردته إلى الإيجاب . وإلى هذا أشار مكي في كتابه مشكل إعراب القرآن ، فقال في إعرابه للآية :« الألف نقلت الكلام من النفي ، فردته إيجابًا » .
والغرض من هذا الاستفهام : التذكير والتنبيه ، والمعنى : شرحنا لك صدرك . وإلى هذا أشار الزمخشري بقوله عند تفسير الآية :« استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار ، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه ؛ فكأنه قيل : شرحنا لك صدرك ، فنبَّه على ذلك ، وذكَّر به » .
وفي المراد بهذا الشرح- على ما ذكر- أقوال :
أحدهما : أن المراد به شقُّ صدره الشريف عليه الصلاة والسلام . فقد روي أن جبريل عليه السلام أتاه ، وشق صدره ، وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ، ثم ملأه علمًا وإيمانًا ، ووضعه في صدره . وروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أنه فسَّره به ، وهو ظاهر صنيع التِّرْمِذِيِّ ؛ إذ أخرج حديث شقِّ الصدر الشريف في تفسير هذه السورة .. وهذا القول – على ما قيل- ضعيف عند المحققين .
وثانيها : أن المراد به شرح صدره صلى الله عليه وسلم للإسلام ، وهو المرويُّ عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وثالثها : أنه كناية عن الإِنعام عليه بكل ما تطمح إليه نفسه الزكية من الكمالات ، وإعلامه برضى الله عنه ، وبشارته بما سيحصل للدّين الذّي جاء به من النصر .
ورابعها : أن المراد به تنوير صدره صلى الله عليه وسلم بالحكمة ، وتوسيعه بالمعرفة ، لتلقي ما يوحى إليه . قال الله تعالى :
﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾(الزمر: 22)
وروي أنهم قالوا : يا رسول الله ! أينشرح الصدر ؟ قال :« نعم ! » . قالوا : وما علامة ذلك ؟ قال :« التجافي عن الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والإعداد للموت قبل نزوله » . وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا ، والرغبة في الآخرة ، والاستعداد للموت .
وخامسها : منهم من فسر الشرح بانفتاح صدره عليه الصلاة والسلام ، حتى إنه كان يتسع لجميع المهمات ، لا يقلق ، ولا يضجر ، ولا يتغير ؛ بل هو في حالتيْ البؤس والفرح منشرح الصدر ، مشتغل بأداء ما كلف به .
والشرح في اللغة التوسعة ، ومعناه : الإراحة من الهموم والغموم . والعرب تسمِّي الغمَّ والهمَّ : ضيقَ صدرٍ ؛ كقوله تعالى : ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾(الحجر: 97) . والأصل في الشرح : فصل أجزاء اللحم بعضِها عن بعض ، ومنه : الشريحة من اللحم ، ثم شاع استعماله في الكشف والبسط ، وإيضاح الغامض والخافي من المعاني . ومنه قولهم : شرَح المُشْكِلَ ، أو الغامِضَ من الأمر . أي : فسَّره ، وبسطَه , وأظهر ما خفِي من معانيه .. وكذلك شاع استعماله في رضى النفس وسرورها بعد ضيق ألمَّ بها ، فقيل : شرح الله صدره بكذا . أي : سرَّه به . ومنه : شرح الله صدره للإسلام ، فانشرح . أي : انبسط في رضًا وارتياح للنور الإلهي ، والسكينة الروحية . قال تعالى :﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾(الأنعام: 125)
وقال تعالى :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ، بصيغة الجمع ، ولم يقل :﴿ أَلَمْ أشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ، بصيغة المفرد . والجواب كما قال الرازي :« إما أن يحمل على نون التعظيم ، فيكون المعنى : أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة ، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة لا تصل العقول إلى كنه جلالتها . وإما أن يحمل على نون الجميع ، فيكون المعنى : كأنه تعالى يقول : لم أشرحه وحدي ؛ بل أعملت فيه ملائكتي ، فكنت ترى الملائكة حواليك ، وبين يديك حتى يقوى قلبك ، فأديت الرسالة ، وأنت قوي القلب ، ولحقتهم هيبة ، فلم يجيبوا لك جوابًا . فلو كنت ضيق القلب ، لضحكوا منك .. فسبحان من جعل قوة قلبك جبنًا فيهم ، وانشراح صدرك ضيقًا فيهم » .
وقال تعالى :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ، وكان يمكن أن يقال :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ صَدْرَكَ ﴾ ، بدون ﴿ لَكَ ﴾ ؛ ولكن جيء به زيادة بين فعل الشرح ، ومفعوله لفائدتين :
الفائدة الأولى : هي سلوك طريقة الإبهام ، ثم الإيضاح للتشويق ؛ فإنه سبحانه لما ذكر فعل :﴿ نَشْرَحْ ﴾ ، عَلم السامع أن ثَمَّ مشروحًا . فلما قال :﴿ لَكَ ﴾ ، قويَ الإِبهام ، فازداد التشويق . فلما قال :﴿ صَدْرَكَ ﴾ ، أوضح ما كان قد عُلِم في ذهن السامع مبهمًا ، فتمكن في ذهنه كمال تمكن .. وكذلك قوله تعالى :﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾ ،﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ .
وهذا من الإطناب البليغ . قال علماء البيان :« إذا أردت أن تبهم ، ثم توضح ، فإنك تطنب ، وفائدته : إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين : الإبهام ، والإيضاح . أو لتمكن المعنى في النفس تمكنًا زائدًا ، لوقوعه بعد الطلب ؛ فإنه أعز من المنساق بلا تعب . أو لتكمل لذة العلم به ؛ فإن الشيء إذا علم من وجهٍ مَّا ، تشوَّقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت . فإذا حصل العلم من بقية الوجوه ، كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة » .
ومن الأمثلة على ذلك قول موسى عليه السلام :﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾(طه: 25) ؛ فإن قوله :﴿ اشْرَحْ ﴾ يفيد طلب شرح شيء مَّا ، و﴿ صَدْرِي ﴾ يفيد تفسيره وبيانه . وكذلك قوله :﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾(طه: 26) ، والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقى الشدائد . وكذلك قوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ؛ فإن المقام يقتضي التأكيد ؛ لأنه مقام امتنان وتفخيم .
والفائدة الثانية: أن في زيادة ﴿ لَكَ ﴾ تنبيه على أن منافع الرسالة عائدة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كأنه قيل : إنما شرحنا صدرك لأجلك ، لا لأجلنا . وفي ذلك تكريمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى قد فعل ذلك لأجله . ومثله في ذلك قول موسى عليه السلام :﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴾(طه: 25) ؛ فكأن في ذلك اعتراف من موسى- عليه السلام- بأن منفعة الشرح عائدة إليه ؛ لأن الله تعالى لا ينتفع بإرسال الرسل ، ولا يستعين بشرح صدورهم ، على خلاف ملوك الدنيا .
وقال تعالى :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ، ولم يقل :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ ، مع أنه المراد هنا . ومثل ذلك قوله تعالى :﴿ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ﴾(الناس: 5) . وكان الظاهر يقتضي أن يقال :﴿ يُوَسْوِسُ فِي قُلُوبِ النَّاسِ ﴾ ؛ ولكن عدل عنه إلى الصدر؛ لأن الصدر- كما قال ابن قيِّم الجوزية- هو ساحة القلب وبيته ، فمنه تدخل الواردات إليه ، فتجتمع في الصدر ، ثم تلج في القلب ؛ فهو بمنزلة الدهليز له ، ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر ، ثم تتفرق على الجنود . ومن فهم هذا ، فهم قوله تعالى :﴿ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾(آل عمران: 154) فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته ، فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب ، فهو موسوس في الصدر .
ومذهب الجمهور أن الصدر هو محل القرآن والعلم . ودليلهم على ذلك قوله تعالى :﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾(العنكبوت: 49) . وقال محمد بن علي الترمذي :« القلب محل العقل والمعرفة ، وهو الذي يقصده الشيطان . فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب ، فإذا وجد مسلكًا ، نزل فيه هو وجنده ، وبث فيه الهموم والغموم ، فيضيق القلب حينئذ ، ولا يجد للطاعة لذة ، ولا للإسلام حلاوة » .
ثالثًا- وقوله تعالى :﴿ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾(2- 3) قراءة العامة ، وقرأ أنس :﴿ حططنا ﴾ ، و﴿ حللنا ﴾ بدلاً من قوله تعالى :﴿ وَضَعْنَا ﴾ . وقرأ ابن مسعود :﴿ عنك وقرك ﴾ ، بدلاً من قوله تعالى :﴿ وِزْرَكَ ﴾ .
والوضع- في اللغة- هو إلقاء الحمل على الأرض ، وهو أعمُّ من الحطِّ . والوزر يقال للحمل ، ويقال لثقل الذنب ، وفي وضعه عنه عليه الصلاة والسلام كناية عن عصمته من الذنوب ، وتطهيره من الأدناس . وعبَّر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك . وقيل : وضع الله تعالى عنه عبئه الذي أثقل ظهره ، حتى كاد يحطمه من ثقله . وضعَه عنه بشرح صدره له ، فخف وهان . ووضعه بتوفيقه وتيسيره للدعوة ومداخل القلوب ، وبالوحي الذي يكشف له عن الحقيقة ، ويعينه على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين .
وقوله تعالى :﴿ وَضَعْنَا ﴾ معطوف بالواو على قوله تعالى :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ ﴾ ، وجاز ذلك ؛ لأن الأول في معنى الإثبات ، فحمل الثاني على معنى الأول . ولو كان محمولاً على لفظه ، لوجب أن يقال :﴿ وَنَضَعْ عَنْكَ وِزْرَكَ ﴾ . ومثله في ذلك قوله تعالى :
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ .
وقوله تعالى :﴿ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ﴾ صفة للوزر . قال علماء اللغة : الأصل فيه : أن الظهر إذا أثقله الحمل ، سُمِع له نقيض . أي : صوت خفيٌّ . والمراد بهذا النقْض : صوت الأضلاع . وهو مثل لما كان يثقل على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من أوزاره . قال أبو جعفر النحاس :« فإن قال قائل : كيف وصف هذا الوزر بالثقل ، وهو مغفور له ، غير مطالب به ؟ فالجواب : أن سبيل الأنبياء- صلوات الله عليهم- والصالحين ، إذا ما ذكروا ذنوبهم ، أن يشتدَّ غمُّهم وبكاؤهم ؛ فلهذا وصف ذنوبهم بالثقل » .
رابعًا- وقوله تعالى :﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾(4) معناه : أن الله جل وعلا رفع له ذكره في الملأ الأعلى , قبل أن يرفعه له في الأرض ، حين جعل اسمه عليه الصلاة والسلام مقرونًا باسمه جل وعلا . ورفع له ذكره في اللوح المحفوظ , حين قدر الله سبحانه أن تمر القرون , وتكر الأجيال , وملايين الشفاه في كل مكان تهتف بهذا الاسم الكريم , مع الصلاة والتسليم . ورفع له ذكره ، حين ربطه بهذا المنهج الإلهي الرفيع . وكان مجردُ الاختيار لهذا الأمر رفعةَ ذكر ، لم ينلها أحد من قبل ، ولا من بعد في هذا الوجود . وليس بعد هذا الرفع رفعٌ ، وليس وراء هذه المنزلة منزلة .. إنه المقام الذي تفرد به صلى الله عليه وسلم دون سائر العالمين .
وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا :« لا أُذكَرُ إلا ذُكِرتَ معي » . وفيه حديث مرفوع ، أخرجه أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن أبي حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال :« أتاني جبريل عليه السلام ، فقال : إن ربك يقول : أتدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله تعالى أعلم ! قال : إذا ذكرتُ ، ذكرتَ معي » .
ولا يخفى ما في هذا الرفع الكريم لذكره عليه الصلاة والسلام من لطف ، بعد ذلك الوضع لأعبائه عنه . هذا الرفع الذي تهون معه كل مشقة وتعب وعناء ، وليس بعد هذا التكريم تكريم ، وليس بعد هذا العطاء عطاء !
خامسًا- ومع هذا كله ، فإن الله تعالى يتلطف مع حبيبه المختار , ويسرِّي عنه ويؤنسه , ويطمئنه ويطلعه على اليسر الذي لا يفارقه ، فيقول :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾(5- 6) .
والعسر : المشقة في تحصيل المرغوب ، والعمل المقصود . وتعريفه للعهد . واليسر ضد العسر ، وهو : سهولة تحصيل المرغوب ، وعدم التعب فيه . وتنكيره في الموضعين للتفخيم والتعظيم ؛ كأنه قيل : إن مع العسر يسرًا عظيمًا ! والكلام وَعْدٌ له صلى الله تعالى عليه وسلم ، مَسوقٌ للتسلية ، والتنفيس .
وقيل : إن قوله تعالى في الحملة الثانية :﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ يحتمل وجهين من التأويل :
الوجه الأول : أنه تكرير للجملة السابقة ، لتأكيد معناها ، وتقريره في النفوس ، وتمكينه في القلوب ، وهو نظير قولك : إن مع الفارس رمحًا ، إن مع الفارس رمحًا . وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح ؛ وذلك للإطناب والمبالغة . فعليه يكون اليسر الثاني عين اليسر الأول . والمراد به ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم . أو يسر الدنيا مطلقًا .
والوجه الثاني : أنه ليس بتكرير للأول ؛ وإنما هو تأسيس . ويكون الحاصل من الجملتين : أن مع كل عسر يسرين عظيمين .
والظاهر أن المراد بذينك اليسرين : يسر دنيوي ، ويسر أخروي . وفي حديث عبد الله بن مسعود أنه لما قرأ :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ ، قال :« لن يغلب عسر يسرين » . فقيل : معناه : أن العسر بين يسرين ، إما فرج عاجل في الدنيا ، وإما ثواب آجل في الآخرة . وقال الكرماني في أسرار التكرار في القرآن :« قوله تعالى :﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ ليس بتكرار ؛ لأن المعنى : إن مع العسر الذي أنت فيه من مقاساة الكفار يسرًا في العاجل ، وإن مع العسر الذي أنت فيه من الكفار يسرًا في الآجل . فالعسر واحد ، واليسر اثنان » .
وعلى هذا يكون قوله تعالى :﴿ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ وعدًا آخر مستأنفًا ، غير الوعد الأول